jeudi, janvier 17, 2008

مشروع الترجمة للمأمون يبعث في تونس وابوظبي


قد يصبح عام 2008 واحدا من اكثر الاعوام اهمية في التاريخ الثقافي الحديث للمنطقة العربية. فلأول مرة، ربما منذ ان امر الخليفة العباسي المأمون بان تصبح الترجمة مشروعا قوميا قبل اكثر من الف عام، تحظى مشاريع الترجمة في العالم العربي بأهمية مثل تلك التي توليها لها الان تونس وابوظبي.

لا حاجة لتقديم ادلة على اهمية قرار المأمون. فالفخر الذي سجله التاريخ له ولبغداد وللعباسيين حقيقة مسلم بها. والانجازات التي لحقت هذا الانجاز الكبير، ربما هي ما نردده عن اهمية الحضارة العربية الاسلامية وما قدمته للبشرية من عطاء. وثمة اجماع شبه كامل بين المؤرخين على ان حركة الترجمة تلك هي ما قدح زناد ثورة المعرفة التي اعقبتها واستمرت لقرون.

تونس قررت ان تجعل العام 2008 عاما للترجمة. وابوظبي اطلقت مشروع "كلمة" لكي يكون لبنة اساسية من لبنات مشروعها الكبير لأن تصبح العاصمة الثقافية للمنطقة.
انهما تستعيدان مبادرة كانت حجر الاساس في حضارتنا العربية الاسلامية.

***
هل الترجمة بهذه الاهمية؟ أم معرفة اللغات الحية اجدى وانفع؟
سؤالان محيران. ولكن الاجابة عليهما تسمعها في طرابلس وعلى لسان اكاديمي محترف.
ففي مؤتمر الترجمة الثالث في نوفمبر الماضي، شخّص الدكتور صالح ابراهيم عميد اكاديمية الدراسات العليا الليبية جواب السؤالين المحيرين. إذ ذكّرنا بأن التقدم لم يكن يوما صنوا للشعوب التي تتعلم لغات اجنبية، بل الشعوب التي تستطيع ان تنقل معارف الاخر الى لغتها. "فالعرب في السابق تقدموا بالترجمة وليس بتعلم اللغات الأخرى، فتعلم اللغات لا يؤدي إلى إحداث نهضة للأمة، إنما الترجمة ونقل العلوم هما الأساس في إحداث النهضة" على حد وصفه.

كم هي دقيقة هذه الاجابة، وكيف - في زحمة العولمة - يمكن ان تغيب عنا.
ثمة معطيات كثيرة تؤيد هذه الاجابة، ليس اخرها الدلائل التاريخية في ماضي الدول القريب والبعيد.
خذ حجم انتشار اللغتين الانجليزية والفرنسية في الدول الافريقية. فالقارة السمراء تتكلم اللغتين اكثر مما يتفاهم مواطنوها بلغاتهم الام. هل قاد ذلك الى تقدم فكري وعلمي وثقافي فيها؟ لا يمكن لرد موضوعي ان يكون بالإيجاب. لا شك ان ثمة مشاكل اخرى تعيق التقدم والتطور في افريقيا، ولكن تعلم اللغات الاجنبية واتقانها لم يغيرا الكثير.

الترجمة شيء اخر. انها اشارة واضحة تطلقها الشعوب لتبيان رغبتها في التحديث والتواصل مع الاخر من خلال افضل ما يقدمه من فكر وثقافة ومعرفة. وليس من قبيل المصادفة ان يأتي المشروعان من تونس وابوظبي/الامارات. فكلا البلدين يعدان انموذجين لمحيطهما الاقليمي. ومشاريع الحداثة والتطوير تجري على قدم وساق فيهما. والترجمة تأتي خطوة اخرى مهمة على طريق هذا التحديث والتطوير. وراعيا المشروعين، الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وولي عهد ابوظبي الشيخ محمد بن زايد، برهنا بتبنيهما شخصيا للمشروعين عن وعي رفيع بأن الشوارع والابنية الفخمة التي تشيد في بلديهما لا تكفي لوحدها في ان تنتقل بشعوب بلديهما من قائمة الدول النامية الى مصافي الدول المتقدمة.

وللدلالة، فان ايا من البلدين ليس عاجزا في اللغات الاجنبية. امشِ في شارع تونسي وتحدث بالفرنسية ولن تصادف الا تونسيا يرد عليك بالفرنسية وبطلاقة. وتجول في ابوظبي لتجد ان فرصتك بالتحدث بالعربية مع من حولك هي اقل من الانجليزية بحكم التواجد الكبير للعاملين الاجانب فيها.

حتى الحديث بلغة اجنبية قد يكون مخادعا ويوحي بمعرفة غير موجودة. إذ يمكنك التفاهم مع وسط يتحدث بلغة اجنبية بعد ان تتعلم ما لا يزيد على 5 الاف كلمة. هذه حقيقة تتلمسها في اي من شوارع لندن "العربية" التي يعتقد مرتادوها انهم يتكلمون الانجليزية، بل ويتقنوها، لكن اغلبهم يهرع الى صديق عارف ما ان يتسلم رسالة فيها بعض التفاصيل التي تتجاوز عبارات الترحيب او عندما يطلب منه ان يملأ استمارة معلومات فيها بضعة جمل.

هذه التجربة تتكرر مرارا بالنظر الى ما يقرأه – بالانجليزية - المقيمون من العرب، مثلا، في بريطانيا واميركا الشمالية. تابع ما يكتبون عنه وهم في دول المهجر فسترى انقطاعا شبه كامل عما ينشر ويتداول في الغرب. انهم يتحدثون بالانجليزية ولكنهم لا يقرأون بها.
فهم ثقافة شعب وطريقة تفكيره تتجاوز كثيرا تلك المفردات الخمسة الاف وتحتاج الى معرفة ودراية، لا بالمفردات وحسب، بل بكيفية استخدامها وبالنمط الثقافي الذي تمثله. فما يضحك الانجليزي، يبدو نكتة سمجة للاميركي، رغم انهما يتحدثان لغة شبه متطابقة.
النهضة العربية المعاصرة ابتدأت مع انتشار الترجمة والطباعة في العالم العربي في مطلع القرن العشرين. صرنا نقرأ الروايات المترجمة، فنكتب اعمالا تنتمي للرواية الحديثة. واصبحنا نقرأ الشعر الانجليزي المتمرد على الوزن والقافية، فاحدثنا ثورة الشعر الحر في امة الوزن والقافية.

وليس من العسير ان نجري مقارنة بين الفترة التي صاحبت انتشار الترجمة في العالم العربي، الفترة التي صار كثيرون يعتبرونها عصرا ثقافيا ذهبيا، وبين فترة الانكماش واهمال الترجمة التي اعقبتها والتي انتجت عصر التشدد الذي نعيشه. فثمة عوامل كثيرة للتراجع والانكماش، ولكن الافتقاد الى الدماء الفكرية والمعرفية الجديدة كان سببا مباشرا لما نحن فيه.

***
مرة اخرى نسأل ترجمة ام لغات اخرى.
ونرد، لاسباب اقتصادية بحتة، ترجمة.
لو قررت ان تستورد ما يطبعه الاخرون من كتب بلغاتهم، فلمن ستكون الفائدة الاقتصادية؟ انها ولا شك لدور النشر الغربية. في حين يضع الكثير من الناشرين في بلداننا ايديهم على خدهم ينتظرون الفرج.
حركة الترجمة النشيطة يمكن ان تعيد مكائن الطباعة في بلداننا الى الدوران.
ولاسباب اقتصادية ايضا، ستصلنا الكتب المترجمة ارخص كثيرا. فالكتاب في الغرب مرتفع الثمن لانه ينجز بكلف مرتفعة ويباع لشعوب ذات دخل مرتفع. في حين ان ثمن كتاب مشترى من الغرب قد لا يقل عن دخل اسبوع، وربما شهر، لبعض الافراد في عدد لا بأس فيه من الدول العربية، وربما اكثرها سكانا. الترجمة هنا تمنحنا الاكثر مقابل القليل.
ثم ان الترجمة تفترض التمحيص فيما يتم اختياره للترجمة. نحن امم نامية وفوضى الكتب ستوقعنا في حيرة. في حين ان منْ يترجم سيقرأ، ربما، 10 كتب ليختار منها واحدا لكي يُترجم. وهنا نبتعد عن وفرة الترف ونستأثر بوفرة الاختيار، ونكون قد وفرنا ايضا.

***
ولكن ماذا نترجم؟ وكيف؟
ترجمة الكتب العلمية الاكاديمية من هندسة وطب وعلوم نظرية، عبث. وقد جربت الكثير من الامم المتقدمة هذا العبث وانتهت الى ان اللغة الانجليزية هي لسان العلم الاكاديمي وهي الوسيط لتبادله. وبعد ان كابرت دولة مثل فرنسا بان "كل شيء يجب ان يكون مكتوبا بالفرنسية" في جامعاتها ومعاهدها البحثية، تراجعت واعترفت بأن الانجليزية ليست لغة بريطانيا، الند التقليدي لفرنسا، بل لسان العالم.
نفس الشيء يقال عن المانيا. تصفح قائمة اهم دور النشر الاكاديمية في العلوم التطبيقية فستجد انها دور المانية تنشر بالانجليزية.
هل نزايد على شيوعية الصين او عنصرية اليابان؟ لكن هذه الدول تنشر ما تنتجه من علوم بالانجليزية.

الكتب التي تستحق ان تترجم من اللغات الاجنبية الى العربية اكثر من ان تعد او تحصى. فثمة آفاق فكرية وثقافية وعلمية (ليس بالمعنى الاكاديمي الصرف) وسياسية واقتصادية في كتب تنتظر ان تصبح في متناول القارئ العربي. اما ما انتج من ادب عالمي خلال اكثر من نصف قرن مضى فيكاد كله، تقريبا، ان يكون بعيدا عن ارفف المكتبة العربية.

القوائم التي اعدها مشروع "كلمة" في ابوظبي تبشر بخير. وحتى ان لم توفق الهيئة المشرفة على المشروع في بعض الاختيارات، فأن العدد السنوي المقترح للكتب المترجمة سيعوض كل اخفاقة. وها نحن ننتظر ما ستقدمه الهيئة المشرفة على الترجمة في تونس، وان كنا نتوقع منها ان تضع في حسبانها اهمية اللغات العالمية الاخرى، وخصوصا الفرنسية، التي يكاد القارئ العربي ان يكون محروما مما ينشر بها.

***
هل نحن في حاجة الى هيئة عربية مركزية لتنظيم الترجمة ومنع التكرار؟ لا، ولاسباب عديدة.
اولا، لان العالم العربي ليس في حاجة الى الية مركزية متخشبة تضاف الى اليات مؤسسة الجامعة العربية.
وثانيا، لان العرب بيروقراطيون وسينتجون ورقا اداريا لاجراءات كل كتاب يزيد عن عدد صفحات الكتاب نفسه وفي فترة تزيد عن الزمن اللازم لترجمة الكتاب وتنقيحه وطباعته وتوزيعه.

حتى التكرار في الترجمة والنشر هنا، يأتي بفوائد عديدة، والامثلة كثيرة. فماذا يضير إنْ ترجم مطاع صفدي كتاب فرانسيس فوكوياما الاشهر "نهاية التاريخ والانسان الاخير"، لنجد ان حسين الشيخ ومحمود امين العالم فعلا نفس الشيء؟ (بعنوانين مختلفين هما "نهاية التاريخ" للشيخ و"نهاية التاريخ وخاتم البشر" للعالم) الا يفيدنا هذا من ناحيتين؛ استحداث منافسة بين المترجمين المحترفين، وتقديم فرصة للباحثين والمهتمين لاجراء مقارنات في صياغات الترجمة؟ ثم هل تعرفون ان ثمة ترجمة جديدة كل 10 سنوات تقريبا لاعمال فرانز كافكا من الالمانية الى الانجليزية.

***
هناك العديد من مشاريع الترجمة في البلاد العربية التي تستحق التقدير، مثل المشروع القومي للترجمة في مصر وسلسلة عالم المعرفة في الكويت. ورغم اهمية ما تقدمه هذه المشاريع، الا انها تحتاج الى المزيد من الدعم والمتابعة وان تتحول الى مشاريع قومية حقيقية.
هل نطلب مستحيلا ان تمنينا ان تصبح مشاريع الترجمة بأهمية مشاريع توفير الخبز وشق الطرقات؟
ألم يفكر المأمون قبل الف عام ويزيد بهذه الطريقة؟
د. هيثم الزبيدي